قيادة الأمم
يُوصف عصرنا بأوصاف عدّة، منها أنّه عصر الاتّصال وعصر الإدارة وعصر الأزَمَات، ويمكن أن أقول أيضًا: إنّه عصر القيادة؛ إذ إنّ القيادة والتّنظيم والمبادرة والإبداع من أهمّ ما تحتاجه الأمم على طريق نهوضها.

الأمّة حتى لا تتراجع وتتخلّف تحتاج إلى (المدير) الممتاز الذي يستثمر الإمكانات، وينتهز الفرص من أجل المصلحة العامّة، لكنّ الأمّة حتى تتفوّق وتنافس فإنّها تحتاج إلى (القائد) الفذّ الذي يمنحها الرّؤية والحلم والطّموح، إنّه الرّجلُ القادرُ على فهم أوجاع شعبه والمدركُ للنّقاط المضيئة في أعماقه.

القائد الفذّ يدرك من حاجات النّاس الرّوحيّة والمادّيّة ما يعجزون عن التّعبير عنه، لهذا فإنّهم يشعرونه وهم تحت قيادته وكأنّ كلّ شيء يأتي في وقته، ويوضع في مكانه الصّحيح ...

و هذه بعض الإشارات الموجزة في هذا الموضوع المهمّ:

1- لدى الشّعوب دائمًا فائض في الشّكوى بحقٍّ وبغير حقّ، ولدى الصّفوة شعور بالارتباك في إرضاء من يستحيل إرضاؤهم، وهذا الارتباك كثيرًا ما يحفِّز على سلوك السّبيل السّهل: المزيد من القوانين والتّشريعات والمزيد من استخدام القوّة الغاشمة، لكن هذا صار اليوم عقيمًا؛ إذ إنّ وسائل الاتّصال المختلفة قد ساعدت على حشد أعداد هائلة من النّاس خلف بعض الأفكار،


وحين يحدث ذلك فإنّ قمعهم يؤدّي إلى حدوث أزَمَات اجتماعيّة كبرى ، إنّ العولمة قد نشرت الثّقافة الغربيّة بين عامّة النّاس، وهي ثقافة ترتكز على مسائل ليست بالكثيرة، من مثل الحريّة والعدالة الاجتماعيّة، ودولة المواطنة وحقوق الإنسان، والمشاركة السّياسيّة ومكافحة الفساد، وتكافؤ الفرص، وهذه المعاني صارت اليوم في صلب مطالب كثير من الشّعوب العربيّة والإسلاميّة،


وإنّ تجاهلها مجافٍ للحكمة وتقدير عواقب الأمور. إنّ تلبية مطالب الجماهير صارت في عرف كثير من النّاس هي المصدر الأقوى لشرعيّة القادة والزّعماء، حتى إنّ الرّئيس المنتخب يفقد الكثير من شرعيّته اليوم إذا لم يُثبت كفاءة ظاهرة في إدارة شؤون البلاد وتحقيق الازدهار الاقتصاديّ. هذا واقع، والتّكيّف معه أسهل من محاولة تغييره.

2- السّبيل الأمثل لقيادة الأمم اليوم هو (الجاذبيّة) والتي تعني إعجاب الشّعب بالقائد إلى حدّ النّظر إليه على أنّه رمزٌ وطنيّ يحترمه الجميع ويشيدون به ، لا شكّ أنّ للموهبة دورًا أساسيًّا في ذلك، لكنّ الموهبة وحدها لا تكفي ولا بدّ من العمل والإنجاز، وأعتقد أنّ القائد الذي يقود النّاس بجاذبيّته يتّصف بعدد من الصّفات:



أ- الاستقامة والنّزاهة في سلوكه الإداريّ والسّياسيّ؛ إذ إنّ القائد غير النّزيه لا يستطيع كسب رضا شعبه مهما كانت إنجازاته الوطنيّة كبيرة وعظيمة.

ب- صناعة هدف وطنيّ تحلم به الجماهير العريضة، كأن يصبح البلد هو الأقوى في المنطقة، أو يصبح بلدًا صناعيًّا متقدّمًا، أو القضاء على الفقر والأمّيّة خلال مدّة قصيرة.. إنّ الحلم الوطنيّ يدفع بالجماهير في اتّجاه تقدير من جعلهم يحلمون.

ج- إنجازات ملموسة تغيّر في واقع النّاس وتحسِّن في أسلوب معيشتهم، وهذه النّقطة بالغة الأهمّيّة؛ إذ إنّ الازدهار الاقتصاديّ صار هو العنوان الأهمّ في نهوض الأمم.

د- الشّفافيّة وتدفّق المعلومات والاقتراب من النّاس وشعور الشّعب بأنّ قائده لا يخفي عنه أيّ شيء مهمّ. إنّ الحديث عن هذه السّمات سهل، لكن التحقق بها أمر في غاية المشقّة.


3- كان القدماء يركّزون على صفات القائد أو الإمام الأكبر، ويغضّون الطّرف عن نوعيّة النّظام الذي يستخدمه القائد في إدارة شؤون العباد والبلاد، وقد دلّت التّجربة أنّ وجود النّظام الجيّد والرّاقي أهمّ من القائد أو الرّئيس الفذّ...


وإنّ من المؤسف أنّ كثيرًا من شبابنا مازالوا ينتظرون قدوم القائد الملهم الذي سيجعل كلّ الأشياء أفضل وأحسن، وهذا أحد الأوهام الكبيرة. إنّ الدّولة الفاضلة هي التي تدير شؤون شعبها بأقلّ قدر من القوّة، كما أنّ المجتمع الفاضل


هو الذي يدير شؤونه بأقلّ قدر من الاحتياج لتدخّل الدّولة، وإنّ النّظام الجيّد هو الذي يجعل الدّولة تعمل الأشياء التي يعجز عنها الشّعب، وهذا يؤدّي إلى تضاؤل حجم الحكومة وموظّفيها وإلى تضاؤل القطاع العامّ،


وهذا يساعد على صلاح السّلطة أو الدّولة؛ لأنّ نظم الحكم مثل أعضاء الجسد: تفسد حين تتضخّم

4- الإنسان يسمح للآخرين بأن يتدخّلوا في مصالحه وحاجاته، لكنّه لا يسمح لهم بالتّدخّل في رغباته،
ومن ثم فإنّ الحكومة التي تحرِم النّاس من بعض مرغوباتهم، أو تحملهم على بعض مرغوباتها، تدخل معهم في حرب باردة، عاقبتها هزيمة الحكومة، واندفاع النّاس نحو إيذائها في محاربة القيم التي تؤمن بها!


إنّ بين السّير بالنّاس في طريق الصّلاح والإصلاح وبين ممالأتهم ومداراتهم هامشًا ضيّقًا ومسلكًا دقيقًا يذهل عنه أكثر الحكّام.

..............................................
بقلم الأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار